فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
قد تقدّم معنى الشقاق في البقرة، وأصله أن كل واحد منهم يأخذ شقاً غير شق صاحبه، أي: ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] وقوله: يا سارق الليلة أهل الدار والخطاب للأمراء والحكام، والضمير في قوله: {بَيْنَهُمَا} للزوجين؛ لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما، وهو ذكر الرجال والنساء {فابعثوا} إلى الزوجين {حُكْمًا} يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وديناً وإنصافاً، وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين؛ لأنهما أقعد بمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذا أشكل أمرهما، ولم يتبين من هو المسيء منهما؛ فأما إذا عرف المسيء، فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما، ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة بين الزوجين. وبه قال مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وهو مرويّ، عن عثمان، وعليّ، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي، وحكاه ابن كثير عن الجمهور، قالوا: لأن الله قال: {فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا} وهذا نصّ من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان، ولا شاهدان.
وقال الكوفيون، وعطاء، وابن زيد، والحسن، وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام، أو الحاكم في البلد لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان، أو يأمرهما الإمام والحاكم؛ لأنهما رسولان شاهدان، فليس إليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله: {إِن يُرِيدَا} أي الحكمان {إصلاحا} بين الزوجين {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق. ومعنى: {إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} أي: يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة. ومعنى الإرادة: خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين، وقيل: إن الضمير في قوله: {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} للحكمين، كما في قوله: {إِن يُرِيدَا إصلاحا} أي: يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما، وحصول مقصودهما، وقيل: كلا الضميرين للزوجين، أي: إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما، ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} قال: هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا امرأته عنه، وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها، ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين، وكره الآخر ذلك، ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي {إِن يُرِيدَا إصلاحا} قال: هما الحكمان {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب.
وأخرج الشافعي في الأمّ، وعبد الرزاق في المصنف، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال: جاء رجل وامرأة إلى عليّ، ومعهما فئام من الناس، فأمرهم عليّ، فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي؛ وقال الرجل: أما الفرقة، فلا، فقال: كذبت، والله حتى تقرّ مثل الذي أقرّت به.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، والذي بعثهما عثمان.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن الحسن قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا، ويشهدا على الظالم بظلمه، فأما الفرقة فليست بأيديهما.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه.
وأخرج البيهقي، عن عليّ قال: إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر، فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
قد تقدّم بيان معنى العبادة. و{شيئاً} إما مفعول به، أي: لا تشركوا به شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حيّ وميت، وجماد وحيوان، وإما مصدر، أي: لا تشركوا به شيئاً من الاشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر والواضح والخفي. وقوله: {إحسانا} مصدر لفعل محذوف، أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله، والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله: {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} [لقمان: 14] فأمر سبحانه بأن يشكرا معه. قوله: {وَبِذِى القربى} أي: صاحب القرابة، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه، وإن كان بعيداً. {واليتامى والمساكين} قد تقدّم تفسيرهم والمعنى وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية: {والجار ذِى القربى} أي: القريب جواره، وقيل: هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب {والجار الجنب} المجانب، وهو مقابل للجار ذي القربى، والمراد من يصدق عليه مسمى الجوارمع كون داره بعيدة، وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها. وفيه ردّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد. وقيل: إن المراد بالجار الجنب هنا: هو الغريب. وقيل: هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش، والمفضل: {والجار الجنب} بفتح الجيم، وسكون النون، أي: ذي الجنب، وهو: الناحية، وأنشد الأخفش:
الناس جنب والأمير جنب

وقيل: المراد بالجار ذي القربى: المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي النصراني.
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار، ويثبت لصاحبه الحق. فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حدّ أربعين داراً من كل ناحية، وروي عن الزهري نحوه. وقيل: من سمع إقامة الصلاة. وقيل: إذا جمعتهما محلة. وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه، وأنه يكون جاراً إلى حد كذا من الدور، أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعيناً، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفاً. ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور، ويطلق على معان. قال في القاموس. والجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير، والمستجير، والشريك في التجارة، وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والإست كالجارة، والقاسم، والحليف، والناصر. انتهى.
قال القرطبي في تفسيره: وروي: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نزلت محلة قوم، وإن أقربهم إليّ جوارا أشدّهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر، وعلياً يصيحون على أبواب المساجد: «ألا إن أربعين داراً جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» انتهى. ولو ثبت هذا لكان مغنياً عن غيره، ولكنه رواه، كما ترى من غير عزوله إلى أحد كتب الحديث المعروفة، وهو: وإن كان إماماً في علم الرواية، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور، ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما، وهو يذكر الواهيات كثيراً، كما يفعل في تذكرته، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون} إلى قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً. وأما الأعراف في مسمى الجوار، فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة، واصطلاحات متواضعة.
قوله: {والصاحب بالجنب} قيل: هو الرفيق في السفر، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك.
وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن أبي ليلى: هو الزوجة.
وقال ابن جريج: هو الذي يصحبك، ويلزمك رجاء نفعك. ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو: كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب أي: بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم، أو تعلم صناعة، أو مباشرة تجارة، أو نحو ذلك. قوله: {وابن السبيل} قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارّاً، والسبيل الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه، ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر، فإن على المقيم أن يحسن إليه. وقيل: هو المنقطع به. وقيل: هو الضيف. قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} أي: وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحساناً، وهم: العبيد والإماء، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس. والمختال ذو الخيلاء، وهو الكبر، والتيه، أي: لا يحب من كان متكبراً تائهاً على الناس مفتخراً عليهم. والفخر: المدح للنفس، والتطاول، وتعديد المناقب، وخص هاتين الصفتين؛ لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان من طرق، عن ابن عباس في قوله: {والجار ذِى القربى} يعني: الذي بينك، وبينه قرابة {والجار الجنب} يعني: الذي ليس بينك، وبينه قرابة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن نوف البكالي قال: الجار ذي القربى: المسلم، والجار الجنب: اليهودي والنصراني.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: {والصاحب بالجنب} قال: الرفيق في السفر.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير، ومجاهد مثله.
وأخرج الحكيم، والترمذي في نوادر الأصول، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: {والصاحب بالجنب} قال: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، وامرأتك التي تضاجعك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عليّ قال: هو المرأة.
وأخرج هؤلاء، والطبراني عن ابن مسعود مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} قال: مما خوّلك الله، فأحسن صحبته، كل هذا أوصى الله به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه، وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في برّ الوالدين، وفي صلة القرابة، وفي الإحسان إلى اليتامى، وفي الإحسان إلى الجار، وفي القيام بما يحتاجه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا، وهكذا ورد في ذم الكبر والاختيال والفخر ما هو معروف.

.تفسير الآيات (37- 42):

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}
قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} هم في محل نصب بدلاً من قوله: {مَن كَانَ مُخْتَالاً} أو على الذمّ، أو في محل رفع على الابتداء، والخبر مقدّر، أي: لهم كذا وكذا من العذاب، ويجوز أن يكون مرفوعاً بدلاً من الضمير المستتر في قوله: {مُخْتَالاً فَخُوراً} ويجوز أن يكون منصوباً على تقدير أعنى، أو مرفوعاً على الخبر، والمبتدأ مقدّر، أي: هم الذين يبخلون، والجملة في محل نصب على البدل. والبخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشرّ خصال الشرّ ما هو أقبح منه، وأدل على سقوط نفس فاعله، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم، وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله {يَأْمُرُونَ الناس بالبخل} كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة، فلا كثر في عباده من أمثالكم، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه، فما بالكم بخلتم بأموال غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللوم ونهاية الحمق، والرقاعة وقبح الطباع وسوء الاختيار.
وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل.
وقد قيل: إن المراد بهذه الآية: اليهود، فإنهم جمعوا بين الاختيال، والفخر، والبخل بالمال، وكتمان ما أنزل الله في التوراة وقيل: المراد بها المنافقون، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك، وأكثر شمولاً، وأعمّ فائدة.
قوله: {والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس} عطف على قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} ووجه ذلك أن الأوّلين قد فرطوا بالبخل، وبأمر الناس به، وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء، والسمعة، كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك، ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله وباليوم الآخر. قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً} في الكلام إضمار، والتقدير، ولا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فقرينهم الشيطان {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً} والقرين المقارن، وهو الصاحب، والخليل. والمعنى: من قبل من الشيطان في الدنيا، فقد قارنه فيها، أو فهو قرينه في النار، فساء الشيطان قرينا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي: على هذه الطوائف {لَوْ ءامَنُواْ بالله واليوم الأخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} ابتغاء لوجهه وامتثالاً لأمره، أي: وماذا يكون عليهم من ضرر لو فعلوا ذلك.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} المثقال مفعال من الثقل، كالمقدار من القدر، وهو منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف، أي: لا يظلم شيئاً مثقال ذرة.
والذرّة واحدة الذرّ، وهي: النمل الصغار. وقيل: رأس النملة. وقيل: الذرّة الخردلة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة. والأوّل هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه. والمراد من الكلام: أن الله لا يظلم كثيراً، ولا قليلاً، أي: لا يبخسهم من ثواب أعمالهم، ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرّة فضلاً عما فوقها. قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} قرأ أهل الحجاز: {حسنة} بالرفع. وقرأ من عداهم بالنصب، والمعنى على القراءة الأولى: إن توجد حسنة، على أنّ كان هي التامة لا الناقصة، وعلى القراءة الثانية: إن تك فعلته حسنة يضاعفها، وقيل: إن التقدير: إن تك مثقال الذرّة حسنة، وأنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى المؤنث، والأوّل أولى. وقرأ الحسن: {نضاعفها} بالنون، وقرأ الباقون بالياء، وهي الأرجح لقوله: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} وقد تقدّم الكلام في المضاعفة، والمراد: مضاعفة ثواب الحسنة.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} كيف منصوبة بفعل مضمر، كما هو رأي سيبويه، أو محلها رفع على الابتداء، كما هو رأي غيره، والإشارة بقوله: {هَؤُلاء} إلى الكفار. وقيل: إلى كفار قريش خاصة. والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وهذا الاستفهام معناه: التوبيخ، والتقريع {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض} قرأ نافع، وابن عامر {تسوى} بفتح التاء، وتشديد السين، وقرأ حمزة، والكسائي بفتح التاء، وتخفيف السين، وقرأ الباقون بضم التاء، وتخفيف السين. والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الأرض هي التي تسوّى بهم، أي: أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض، فساخوا فيها، وقيل الباء في قوله: {بِهِمُ} بمعنى على، أي: تسوّى عليهم الأرض. وعلى القراءة الثالثة الفعل مبنيّ للمفعول، أي: لو سوّى الله بهم الأرض، فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا. قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} عطف على {يَوَدُّ} أي: يومئذ يودّ الذين كفروا، ويومئذ لا يكتمون الله حديثاً، ولا يقدرون على ذلك. قال الزجاج: قال بعضهم {لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} مستأنف؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه.
وقال بعضهم: هو معطوف. والمعنى: يودّون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثاً؛ لأنه ظهر كذبهم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالاً من الأنصار يتنصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون؟ فأنزل الله فيهم: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} إلى قوله: {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً}.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عنه أنها نزلت في اليهود.
وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد.
وأخرجه ابن جرير، عن سعيد بن جبير.
وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن ابن عباس: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} قال: رأس نملة حمراء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} وزن ذرة زادت على سيئاته {يضاعفها} فأما المشرك، فيخفف به عنه العذاب، ولا يخرج من النار أبداً.
وأخرج البخاري، وغيره، عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ»، قلت يا رسول الله آقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: «نعم إني أحبّ أن أسمعه من غيري»، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} قال: «حسبك الآن»، فإذا عيناه تذرفان.
وأخرجه الحاكم، وصححه من حديث عمرو بن حريث.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} يعني: أن تسوّى الأرض بالجبال، والأرض عليهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية: يقول: ودّوا لو انخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} قال: بجوارحهم.